هذه عبارة تُعزى للمستشرق الفرنسيّ/ ريجيس
ابلاشير(Régis
Blachere)، يُفهَم
منها – على الأقل- أنّ العرب لا يقدِّرون اللغة العربية حق قدرها. هذه اللغة،
الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ البشريّ، والتي تتنبأ الدراسات الإستراتيجية
الحديثة بأنها ستكون ضمن اللغات الخمس العملاقة في العالم، بحلول العام(2050م).
ومع ذلك، فإننا نجد بعض الأشخاص، المحسوبين على جهات معادية للغة العربية، ينادون
بضرورة الاستمرار في تدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية، متذرعين بأن اللغة
العربية غير قادرة على القيام بهذه المَهمة. وممّا يُؤسَف له أنّ أصحابَ هذه
الدعوة المضللة، يجدون آذانا صاغية لدى معظم أصحاب القرار، في الوطن العربي، الذين
ما زالوا يترددون ويتخوفون من الإقدام على تعريب التعليم الجامعيّ، متوجسين خيفة
ممّا قد يترتب على ذلك من تعقيدات، في الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب الاختصاص أنّ هذا
التخوف ليس في محله ولا مسَوِّغ له إطلاقا، لأنّ اللغة العربية قادرة بكل جدارة
على نقل العلوم والمعارف ومواكبة العصر. ويبدو أن أعداء اللغة العربية قد أدركوا أن
حججهم لم تعد تُقنِع أحدا، وأنّ محاولاتهم اليائسة، لتبخيس اللغة العربية والتقليل
من شأنها، باءت بالفشل الذريع، فتفتقت"عبقريتهم" مؤخرا عن
فكرة-جديدة/قديمة-جسَّدوها في توصيات يطالبون فيها باعتماد الدارجة في التعليم،
بدلا من العربية الفصيحة ! والسؤال
الذي يطرح نفسه، بهذا الخصوص، هو: إذا كان هؤلاء يرون أنّ العربية الفصحى غير
مؤهلة لأن تحل محل اللغة الأجنبية في التدريس، فهل الدارجة مؤهلة لأن تقوم بهذه
المَهمة ؟ الجواب واضح، ولا يحتاج إلى تفكير، فالهدف من كل هذا هو إخلاء الجو للغة
الأجنبية لتظل مهيمنة على التعليم، عن طريق إزاحة العربية الفصحى من طريقها، إذ هي
وحدها القادرة على منافستها وإقصائها، وهو ما تعجز عنه الدارجة التي لا تتوفر على
مقومات اللغة العالمة التي تتوفر عليها الفصحى، الأمر الذي يجعل هذه الأخيرة
تتعامل مع اللغة الأجنبية معاملة الندّ للندّ، بل تتفوق عليها.
وقد أحدثت هذه الدعوة ردة فعل قوية، لدى العديد
من الأوساط الفكرية والثقافية المغربية، وتعالت أصوات الاستهجان والاستنكار لهذا
العبث بقيم الأمة وحضارتها وهُويتها...فقد صدر بيان عن الجمعية المغربية لحماية
اللغة العربية، جاء فيه:
" تبعا لما صرح به أحد المحسوبين على
تيار الدعوة لسياسة الفرنسة ببلادنا، في مذكرته الرامية إلى إلغاء اللغة العربية،
واعتماد اللهجة الدارجة، وتدريس العلوم بلغة أجنبية، وإبعاد الدين عن المراحل
الأولى من التعليم الأوليّ، خاصة في الكتاتيب، فإننا في الجمعية المغربية لحماية
اللغة العربية، ندين بشدة ما ورد في هذه المذكرة، حول اعتماد الدارجة المغربية في
التعليم، وما جاء فيها جملة وتفصيلا، إذ تعتبره الجمعية تصريحا ينم عن جهل
بمعتقدات الأمة، وهُويتها وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ، وما الاستياء العام في
أوساط محبي اللغة العربية وجميع شرائح الشعب المغربيّ المعتزة بدينها ولغتها
وثقافتها، وبهُويتها، إلّا دليل على شجب وإدانة المذكرة المذكورة ومن يسير في
ركبها. إنّ اللغة العربية لغة خالدة، لأنها تحمل في أحشائها ما يضمن لها الخلود،
فهي متطورة ومتجددة وعصرية. ولئن كان التعليم المغربيّ يحتل مراتب متأخرة في
العالم، فذلك راجع إلى السياسات المتعاقبة في البلاد التي لم تحسم في المسألة
التربوية، وزاغت عن المبادئ الأساسية التي وضعت لتطوير مجال التربية والتكوين،
وأوقفت تدريس المواد العلمية باللغة العربية بقسم البكالوريا ولم تمض به إلى
منتهاه بالجامعة المغربية وأحجمت عن تطبيق البند(114) من ميثاق التربية والتكوين،
وهذا هو السبب الرئيس للأزمة المغربية في التعليم. ومثل هذه المذكرات الحاقدة على
اللغة العربية، لا تزيد الشعب المغربيّ إلّا تمسكا بلغته، ولا تزيد اللغة العربية
إلّا صمودا وثباتا وقوة. إنّ الشعب المغربي، ومعه قواه الحية كافّةً، متمسكون
بقيمهم الأصيلة وبلغتهم المثالية، ودينهم الحنيف المعتدل، يشجبون مثل هذه
التصريحات غير المؤسسة، رغبة في زرع الفتنة والبلبلة، وتحقيرا للتربية في بلاد
المغرب، التي تحتاج إلى إصلاح بإشراك الجميع من أجل تصحيح مسارها، ووضع حد للتطفل
في الحقل التربويّ، لأنه العمود الفقريّ لكل تنمية وتحضر وتمدن".
وكتب وزير الثقافة المغربيّ السابق/ بنسالم
حِمِّيش/ مقالا حول الموضوع(نُشِر في جريدة "المساء" المغربية. العدد:
2225 بتاريخ: 21 نوفمبر 2013م)، جاء فيه "...إذا كانت اللغة العربية إرثا
حضاريا تملكناه واستثمرنا فيه منذ قرون عدة، أدبيا وفكريا وعلميا، واشتققنا منه
عاميتنا السارية في جهات بلادنا الأربع، وإذا كانت تلك اللغة من مقومات هُويتنا
التاريخية، ودسترناها منذ فجر الاستقلال، فالواجب الجماعيّ والعينيّ اليوم يقضي
بحمايتها وصيانتها من حملات التهجين والتبخيس، وذلك بدءا بصياغة مشروع قانون تعرضه
الحكومة على السلطة التشريعية كي يصبح، في أجل مقبول، ساري الوقع والمفعول في
الإدارات والمؤسسات العمومية والفضاءات التجارية وحتى في بعض القطاعات الحكومية
والمندوبيات، ولِمَ لا حتى في القطاع الخاص أيضا، وذلك تأكيدا لتنزيل دسترتها
القديمة منذ 07 ديسمبر 1962م...".
وبنظرة موضوعية لهذا الجَدَل، القديم/
الجديد، حول اللغة العربية ومدى صلاحيتها لأن تكون لغة التدريس والإدارة وسائر
المرافق الحيوية، وهل العامية أصلح لهذ ه الأغراض من الفصحى، وهل، وهل...يرى أهل
العلم والاختصاص أن العيب ليس في اللغة العربية الفصحى، وكل ما في الأمر هو أن
العرب لا يولون الاهتمام الكافي لهذه اللغة العظيمة، وهذا ما ذكره/ ابلاشير/ عندما
قال: "إنّ العرب لا يستحقون لغتهم".
إنّ اللغة العربية تنتشر اليوم عالميا بسرعة
فائقة، وتبرهن يوما بعد يوم- كما برهنت في الماضي- على أنها لغة الحاضر والمستقبل،
ولا ينقصها إلّا اتخاذ بعض التدابير اللازمة لإعادة الاعتبار إليها. من ذلك:
1-اعتماد سياسة لغوية رشيدة، تتضمن تخطيطا لغويا محكما، وتعمل على ضبط المناهج، والإعداد الجيد للمعلم، والعناية بكل ما يمت بصلة لعملية التعليم والتعلم، مع العمل على تيسير فهم اللغة، وتقليص الفروق بين اللغة العربية الفصيحة والعاميات العربية، بكل الوسائل الممكنة، ومن بينها: إعادة الألفاظ العامية إلى أصولها الفصيحة، إن وُجِدت، ووضع البديل الفصيح للفظ العامّيّ، وإدخال الحصيلة في المعجم اللغويّ الحديث، الأمر الذي من شأنه تقريب لغة التدريس من لغة التخاطب العادي، وفي ذلك إغناء للغة الفصيحة وتيسير لفهمها واستيعابها (يرجى الاطلاع على سلسلة "تفصيح العامية"، المنشورة إلكترونيا).
2-العمل على تنمية اللغة العربية وتطويرها،
لتزداد قدرة على منافسة اللغات الحية الأخرى في نقل علوم العصر والتعبير عن
مستجِدّاته. ولا يعني ذلك أنّ اللغة العربية عاجزة في الوقت الراهن عن نقل العلوم
والمعارف، لكن تنميتها تظل ضرورية في هذا العصر المتسم بالتطور المتسارع وبالتغيير
المستمر. ويأتي استعمال اللغة العربية، في التدريس والإدارة وسائر المرافق
الحيوية، على رأس وسائل تنميتها وتطويرها. فالعضو الذي لا يُستعمَل يضعف ثم يموت.
والعِلم يَزْكو بالاستعمال. واللغة كذلك تزكو وتنمو بالاستعمال، من خلال غَوْص
مستعملِيها في أعماقها لاستكشاف أسرارها وقدرتها على تلبية حاجات التعبير والتفاعل
مع محيطها. وهنا تكمن أهمية القرار السياسيّ القاضي باستعمال اللغة العربية في
التعليم، بجميع مستوياته. وفي هذا الإطار، يقول د. فؤاد أبو علي/ رئيس الائتلاف
الوطني من أجل اللغة العربية:
"...اللغة القومية، زيادة على بعدها
الهوياتي الوحدويّ، تشكل مدخلا رئيسا للتطور والإنتاج الاقتصاديّ...وجود لغة جامعة
وموحدة يساهم في رفع مستوى أفراد أي مجتمع. وهذا لن يتأتى بدون أن تكون هذه اللغة
هي لغة التدريس كما هو الشأن في الدول المتقدمة..."
وكتب/ عبد الله الدامون/ مقالا، في
عمود"صباح الخير" بجريدة"المساء" المغربية، العدد: 2227، جاء
فيه:."...كنت أتمنى أن هؤلاء المتخلفين، عقليا وحضاريا، الذين يدعون إلى
استعمال الدارجة في المدرسة والثقافة، قرؤوا التاريخ قليلا وعرفوا ما حدث في مناطق
كثيرة من العالم، حيث توجد لغات أو لهجات للحديث بين الناس، ولغات أخرى للعلوم
والثقافة والتعليم...كنت أتمنى لو أنّ الدعوة إلى تعميم الدارجة ممكنة، لكن
المشكلة هي أيّ دارجة سنعتمدها في مدارسنا، هل هي دارجة الجنوب أم الشمال أم دكالة
أم عبدة أم وجدة أم بركان أم اصويرة أم تاونات أم تافراوت ؟ ثم مَن هذا المغربيّ
الحر الذي يقبل أن يتعلم أبناؤه في المدرسة دارجة غريبة عنه ولا يتحدثها بين أهله
؟...".
ولا يفوتني، في الختام، أن أذكِّر بأنّ اللغة
العربية الفصيحة، لغة القرآن الكريم، تعَدّ عاملَ وحدة، لا غنًى عنه، وهي أهم
رباط، بعد عقيدة الإسلام، يربط بين مكونات شعبنا العربيّ، من المحيط إلى الخليج،
ويجب أن نعَض عليها بالنواجذ ونتيح لها الفرصة لتبرهن على قدرتها على مسايرة
العصر، وهي جديرة بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق